تساوي دلالة الكلمة العبريّة «شبا» الأكثر انتشاراً الكلمة العربيّة «سبأ»، بمعنى المملكة السّبأيّة العظيمة في المنطقة المعروفة اليوم باليمن.
وقد جرت أخيراً حفريّات في «محرم بلقيس» وهو هيكل عتيق بقرية مأرب القديمة بمنطقة يُحسب أنّها كانت تنتمي إلى مملكة سبأ العتيقة. والاسم بلقيس هو ما تُسمّى به ملكة سبأ في القصص التي انتشرت فيما بعد في التّراث الإسلامي. على أنّ ملكة سبأ لا يُذكر اسمها في النّص القرآني نفسه. وتوافق القصّة القرآنيّة الرّواية المسجّلة في الكتاب المقدّس في بعض الملامح، لكنّها تضيف إلى وصف الملكة تفاصيل لا تُذكر في الكتاب المقدّس.
تروي ملكة سبأ قصّتها
لقد سمعت بحكمته العجيبة وغناه
فقد سمّاه نبي وطنه "محبوب الإله"
لماذا قمتُ بهذه الرّحلة البعيدة؟
تساؤلاتي هي التي دفعتني
وضاقت بي أسئلتي وحيرتني
وكم بذلت وقتاً وجهداً في التّأمّل والتّفكير
قبل أن أقرّر الذّهاب والمسير
وأتبع طريق الحرير الطّويل والمثير
من وطني الأخضر الثّري إلى بلد بعيد صغير
إلى بلاط سليمان الملك الشّهير
حملتُ معي بعض الهدايا الثّمينة
هدايا تليق بقائد ذائع الصّيت، والشّهرة العظيمة
أربعة أطنان من الذّهب، والحجارة الكريمة
وأكياس مكدّسة بالتّوابل والأطايب المعطّرة الغريبة
سفري كان مُتعِباً ولم يخلُ من المخاطر الكثيرة
رغم الرّفقة والحاشية الكبيرة
حبّذا لو أُرضي اشتياق قلبي، ورغبتي الشّديدة
هل فعلاً يستطيع رَجُل عادي أن يعرف أسرار الحياة العميقة؟؟
قالوا إنّ حكمته وهبها له إلهه العظيم
وعند وصولي، تجاوزتْ الحقيقة توقّعاتي فلم يخبروني ولو بنصف الحقيقة
وجمال وروعة القصر والحديقة
الموائد الفاخرة مغطّاة بألوان الأطايب الشّهيّة
والهيكل الرّائع الذي قُدِّمت فيه الذّبائح الكفّاريّة
عن خطايا الشّعب وذنوب البقيّة
وعندما تحدّثت مع الملك، عَجبت من لطفه وكرمه وفهمه
لم يحرجه أيّ سؤال ولم تصعب علية أيّة قضيّة
رأيته يحكم بالعدل والبرّ، ويُنصف كلّ بائس وشقيّة
وعندما تأمّلت في ما رأيته
أدركت سرّ سليمان وحكمته
فقد أمطر ربّه عليه المواهب
وأحبّه سبحانه وشعبه الغالب
نعم، إنّ محبّة الله الغير مشروطة واللّامتناهية
هي المفتاح الذي يفتح أبواب قلوبنا الشّقيّة
وعلمت أنّ احترام الرّبّ هو رأس كلّ حكمة حقيقيّة
ومعرفة نقيّة
للتّأمّل
وستقوم ملكة الجنوب يوم الدّينونة مع هذا الجيل وتدينه، لأنّها جاءت من أقصى الأرض لتسمع حكمة سليمان، وها هنا أعظم من سليمان! (بشارة متّى 12: 42)
وبعد عدد من القرون حَمد الرّبّ يسوع ملكة سبأ على تواضعها واستعدادها لتُصغي إلى عبد الله سليمان. فكيف يمكن أن نقتدي بها، نظراً لأنّنا نقترب من أعظم من سليمان، من ربّ المجد نفسه، الذي يقرع باب قلوبنا؟
أين موقعك الحالي في رحلة حياتك؟
يقول لنا الكتاب المقدّس:
أطلبوا، تعطوا. إسعوا، تجدوا.
إقرعوا، يُفتح لكم.
(بشارة متّى 7: 7)
ما هو أعظم اشتياق في قلبكِ؟ هل عبّرتِ عنه أمام أحد؟ هل قدّمتيه لله في الصّلاة؟
هل أنتِ مستعدّة أن تُنفقي وقتاً وجهداً في البحث عن أجوبة أسئلتك؟
ولو طَلب منك هذا البحث الخروج من مجال الأمن والرّاحة، ولو طَلب منك أن تعرّضي نفسك لسوء فهم الآخرين، فهل تخرجين؟
هل تعرفين شخصاً حكيماً يمكن أن تطلبي منه أجوبة الأسئلة التي تقلقكِ؟
يزعم البعض أنّ دمشق، عاصمة سوريا هي أقدم مدينة مأهولة في العالم دون انقطاع. أمّا قصّتنا هذه، فهي الثّانية التي تدور حول النّبي أليشع الذي كان حيّاً زمن هياج سياسي بين مملكة الشّمال - إسرائيل - ومملكة الجنوب - يهوذا - وبين الممالك المحيطة بهما. ورغم أنّ إسرائيل قد وقّعت عقد سلام مع سوريا المُسمّاة آنذاك بآرام، إلّا أنّ الغَزَوات لم تنقطع، والعلاقات بين الأُمّتين بقيت متوتّرة. وكان نعمان باعتباره قائد جيش ملك آرام رَجُلاً ذا نفوذ عظيم، غير أنّ سلطته العسكريّة لم تكفّ للتّغلُّب على الآفة الفظيعة التي كان مصاباً بها - داء البرص.
زوجة نعمان تحكي قصّتها
بدا لي الأمر وكأنّه قد يفوق جميع آمالي وأحلامي، فبينما استمعت إلى كلام الفتاة الصّغيرة، حقّقت رغبات قلبي العميقة. إنّ زوجي نعمان يُعدُّ رجُلاً شجاعاً ومحترماً جدّاً، لكنّني كنت أعرف في تلك اللّحظة أنّه كاد ينكسر نفسيّاً. كان باعتباره قائد جيش مملكتنا آرام القوي دائماً يتصرّف بوقار يملأ صدور ضبّاطه ثقة وطمأنينة. لكن كارثة عظيمة - مرض فتّاك - قد أصاب بيتنا، فلا يعرف دواء يعالج به البرص. كيف أتحمّل رؤية اضمحلال قواه وحيويّته التّدريجي تحت نفوذ هذا الدّاء الموهن المخيف؟ أمّا طريقة حياتنا ومستقبلنا فمُعرّضان للخطر، ولا أحد قادر على مساعدتنا ...
يعني، لا أحد سوى هذه الفتاة الصّغيرة التي سُبِيَت واختُطِفت من بلادها لتخدم في بيتنا. ومن العجيب أنّها كانت تثق بي رغم تجاربها الأليمة وكانت، كما يبدو، تشعر بشفقة على سوء حالة زوجي. فتحدّثتْ لي عن رَجُل الله في بلادها، وكانت مقتنعة كلّ الاقتناع أنّه قادر على إنقاذ نعمان من مرضه.
"يا ليت سيّدي يَمثُل أمام النّبي الذي في السّامرة - ألحّتْ عليّ بالإيمان البسيط والاقتناع التّام الذي كثيراً ما يتميّز بهما صغار السِّنّ - فينال الشّفاء من برصه".
كم كان يشوّقني أن يُشفى زوجي!، لكن لم نكن نعرف إله هذه الفتاة الصّغيرة، ولم نكن نشاركها في الإيمان أو في التّقاليد، فكان لنا ديننا نحن. لكن من الجهة الأخرى، هل أستطيع إهمال توسّلها؟ فبالرّغم من صغر سنّها، بدت لي مليئة محبّة وعطفاً على أسرتنا. وأُثير شعور في نفسي، وأدركت أنّني قد حصلت على بُشرى ينبغي أن أُخبر زوجي بها.
وعندما أخبرتُ نعمان بالنّبي والمعجزات التي قام بها في الماضي، منها إقامة شاب من الموت، تصرّف كالمعتاد بحزم وعزم. فانصرف مباشرةً إلى الملك، فأبلغه هذا الخبر الجديد. فأعطاه الملك بكرمه رسالة تقديم موجّهة إلى ملك إسرائيل علاوةً على كميّة كبيرة من الذّهب والفضة وعشر حُلَل من الثّياب هديّة لملك إسرائيل.
وممّا ورد في الرّسالة بكلام صريح: وحال تسلُّمك لهذه الرّسالة إشفِ نعمان خادمي الذي أرسلتُه إليك من برصه.
لم تخلُ الرّسالة من صراحة، لكنّنا لم نكن ننتظر أن تثير ردّ فعل سلبي مثلما حدث. ذلك أنّ ملك إسرائيل أساء تماماً فَهم نيّة نعمان في سَفَره إلى السّامرة. فاتّهمه بالقيام بحيلة سياسيّة قصدها أن يشاكسه وفقاً لإرادة ملكنا.
فمزّق ثيابه المَلكيّة للتّعبير عن فزعه. هل أنا الله؟ سأل الملك بسخرية لاذعة ثاقبة كالخنجر. هل أستطيع أن أُميت وأن أُحيي؟
وعندما بدأ نعمان يظنّ أنّ كلّ آماله فاتت، سُلَِمت له رسالة من النّبي أليشع، الرّجُل نفسه الذي تحدّثتْ عنه الفتاة الصّغيرة بحماسة شديدة. وقَبِل نعمان بدعوته، فاتّجه إلى بيت أليشع محفوفاً كالمعتاد بمركباته وخَيْله، لكنّ استقباله خيّب آماله مرّة ثانية، إذ لم يخرج رَجُل الله حتّى إلى الباب ليستقبله، وإنّما بعث خادمه بإرشادات غريبة.
إذهبْ واغتسلْ سبع مرّات في نهر الأردن، فتنال الشّفاء.
إنّ مثل هذا الرّدّ لم يتوقّعه نعمان قَطّ، فبدا له إهانة. فعندنا نهران عظيمان أبانة وفرفر يمكن أن نغتسل بهما. أمّا الاغتسال في نهر الأردن التّافه الشّأن، فيا له من انفضاح!. ولماذا لم يخرج أليشع ليدعو لاسم إلهه ويمرِّر يده فوق الموضع، فيبرأ؟ كان هذا الرّجُل صانع معجزات، أَمْ لا؟ فانصرف زوجي غاضباً.
والحمد لله، لم تنته قصّتي بهذا الختام المأسوي. لقد أدرك خدّام زوجي على نحو أو آخر صحّة كلام أليشع، فناشَدوه أن يُعيد النَّظَر في الأمر. كانوا يعرفون استعداد نعمان أن يبذل قصارى جهده لينال الشّفاء، فلماذا لم يُرِد أن يغطس في نهر الأردن سبع مرّات، وهذا فعل بسيط؟ وفي الآخر رقّ قلبه، فأطاع كلمة الله التي أعلن عنها النّبي.
وكم أشكر الله أنّ زوجي تواضع فعمل بحكمة. عاد إلينا رَجُلاً متغيِّراً. فلم يقتصر التّغيير على مظهره الخارجي - صار لحمه كلحم صبي صغير - وإنّما قد تمّ تطهير في داخله. كان على علم بأنّه قد اغتسل من خطاياه أيضاً مثلما اختفت بُقَع البرص من جلده في ذلك اليوم المهمّ. لقد أصبح من ذلك الوقت عابداً لله، الإله الواحد الحقّ. ورغم صعوبات اتّباع معتقداته الجديدة علناً، إلّا أنّه عزم عزماً أكيداً أن يعبد الإله الحيّ - إله أليشع وإله الجارية الصّغيرة، الإله الذي منح لنا حتّى حياتنا.
للتّأمُّل
كانت زوجة نعمان امرأة هامّة ذات نفوذ، معتادة على مخالطة الدّوائر الاجتماعيّة الرّفيعة، لكنّها أظهرت تفتُّحاً عجيباً واستعداداً عظيماً للإصغاء حالما تنبّهت إلى كلام جاريتها حول أليشع.
كيف يخاطبكِ الله؟ هل يتّخذ لذلك إنساناً آخر - ربّما إنسان غير مُتوَقَّع - ليملأ قلبكِ سلاماً في الموقف الذي أنتِ فيه؟ هل تستطيعين إدراك صوته سبحانه؟ هل أنت مستعدّة للاستماع إليه؟
كما أنّ زوجة نعمان كانت امرأة إيمان، وإلّا لم تكُن لترى في نَقل الرّسالة إلى زوجها فائدة.
أين أنتِ في رحلتك في الإيمان؟ هل أنتِ مستعدّة للتّأمّل فيما يبدو مستحيلاً؟ إذا كنتِ مؤمنة بالمسيح، هل طلبتِ من ربّك فُرَصاً لتُخبري أسرتك ببشرى الإنجيل؟
وبعد حدوث قصّتنا بقرون كثيرة انتشرت أخبار رَجُل ذو قوّة أعظم حتّى من قوّة أليشع إلى منطقة سوريا (الإنجيل كما دوّنه متّى 4: 24)، فأتاه مرضى ومتألّمون وفوداً. لم يكن هذا رَجُلاً عاديّاً، بل كان عمّانوئيل، الإله الإنسان، الذي له السّلطة لا ليشفينا من أمراضنا فحسب، بل ليغفر لنا خطايانا ويُمكِّننا من بداية جديدة في حياتنا.
هل تستمعين إلى صوت يسوع المسيح عندما يخاطبك اليوم؟ إنّه يريد أن تقتربي منه لتشفي من داء الخطيئة والموت الذي نحن كلّنا مصابين به. هل تستمعين إلى صوته بأيّ ثمن كان؟
باركي يا نفسي الرّبّ، وليحمد كلّ ما في داخلي اسمه القدّوس.
قرية شونم القديمة - هي قرية «سولم» الحاليّة - قرية عربيّة واقعة على هامش وادي يزرعيل. وكان موقعها في عهد أليشع موقعاً استراتيجيّاً بالنّسبة للمسافرين لكونها قريبة من طريق شاطئ البحر الأبيض المتوسّط.
وتُذْكر المرأة الشّونميّة مرّة ثانية في كتاب الملوك الثّاني، الفصل الثّامن والآيات 1-6. ذلك أنّها رحلت هي وعائلتها لبلاد الفلسطينيّين - وفقاً لنصيحة النّبي أليشع - هرباً من مجاعة هائلة دامت 7 سنين. وبعد عودتها رجع ملكها إليها بفضل شهادة جيحزي خادم أليشع.
لقد بدأ الأمر بفكرة واحدة متواضعة. كانت حياتي في بيتنا المريح ترضيني، فرغم أنّي لم أُنجب أبناء، إلّا أنّ زوجي كان رجلاً طيّباً أميناً. وبمرور الأيّام، أردتُ أن أقوم بخدمة مفيدة، وكثيراً ما كنت أتأمّل في ذلك وأدعو الله كيف يمكن أن أخدم ربّي الذي منحنا كلّ ما نملك.
ورغم أنّ المؤمنين في بلادنا كانوا قليلي العدد، إلّا أنّي قد سمعت قصص النّبي العظيم أليشع الذي حلّ عليه ضِعف ما كان لدى إيليّا النّبي من قوّة روحيّة. وإيليّا إنّما هو الذي أخجل أنبياء البعل الكَذَبة بمناسبة انتصاره العظيم على جبل الكرمل. وكم فرحنا وتشرّفنا كلّما نزل أليشع عندنا ليتناول الطّعام!. وأدركت مباشرة أنّه كان رجلاً مقدّساً لله. وبعد إحدى زياراته أتت لي فكرة. فلماذا لا نفرش له غرفة فوق السّطح لكي يَبيت فيها أثناء رحلاته؟ ونظّمت الغرفة بعناية ووضعت فيها كلّ ما كان في نظري ضروريّاً - طاولة وسريراً وسراجاً وكرسيّاً. ولم يعترض زوجي على هذا الاقتراح، وبعد قليل بدأ أليشع مع خادمه جيحزي يزوراننا بانتظام.
وفي يوم من الأيّام استدعاني جيحزي فجأة إلى العليّة، فسألني أليشع كيف يمكن أن يجازيني على إكرامي له. وطبعاً لم أكن أتوقّع مكافأة. وكم صُدِمْت عندما أعلن لي أليشع أنّي سأُنجب ابناً في مثل هذا الوقت من السّنة القادمة!. كنت قد قبلت بحالي منذ مدّة طويلة، ولم أستطع أن أؤمن بأنّ زوجي سيُنجب طفلاً في سنّه المتقدّم. رغم ذلك، فإنّ ما تنبّأ به أليشع حدث فعلاً، فولدتُ ابناً بفرح شديد في السّنة التّالية.
وطبيعي كنت أعتني بابننا الوحيد عناية شديدة وحدث أنْ أصابني حزن مؤلم عندما حصلت مأساة في أسرتنا. لقد خرج ابننا إلى الحقل مع أبيه أيّام الحصاد، فبدأ يشكو صداعاً شديداً. وأرجعه أحد الخدّام إلى البيت، وأدركت أنّ الآلام كانت غير وهميّة. وحاولت ما في وسعي لأخفّف من حمّى جبينه. وسعيت أن أريحه، لكنّي لاحظت اختفاء النّور من وجهه الحبيب، وأنا أحتضنه. وتركني الوليد الذي كنت أحبّه من كلّ قلبي، ومات!.
ووعيت أنّه ينبغي أن أتّخذ الإجراءات اللّازمة بسرعة. فحملته إلى العليّة، ووضعته على سرير النّبي أليشع، ثمّ اتّجهت إلى البحث عن رَجُل الله بأسرع ما يمكن. أكيد أنّه قادر على مساعدتي!. وعندما وصلت إليه على جبل الكرمل، تغلّب عليّ الحزن واليأس، فبدأت بلَومه قائلة:
«هل طلبت أنا منك ابناً، يا سيّدي؟» أَلَم أقُل لك: لا توقِظ أمَلاً في قلبي!؟.
فأرسل أليشع خادمه أمامه بعكّازه وأمره أن يضعه على ابني، أمّا أنا فرفضت أن أترك النّبي. إنّ أليشع نفسه تنبّأ بمعجزة ولادة ابني، وإذا طلب ذلك من الله، فإنّي على يقين بأنّ الرّبّ سيسمع دعاءنا وسيستجيب ...
وقبل أن نصل إلى البيت، خرج جيحزي للقائنا، وعلى وجهه ظهرت خيبة أمله، إذ لم يستطع إحياء ابني. وحالما دخلنا البيت، طلع أليشع إلى العليّة حيث كان ابننا ممدّداً، فأغلق الباب. وسمعت أليشع يتضرّع بحرارة، ثمّ يخطو ذهاباً وإياباً في الغرفة. ثمّ سيطر هدوء عظيم قبل أن يحدث شيئاً عجيباً حقّاً، فسمعت ابني يعطس سبع مرّات، ثمّ دعاني رَجُل الله للدّخول. ولا أستطيع أن أعبّر بالكلام بوفرة شكري وفرحي، عندما احتضنت ابني من جديد. كان حيّاً!.
للتّأمّل
بعيدة عن بيتها وأسرتها، متزوّجة برَجُل أكبر منها في السّنّ، وبدون أمل في إنجاب أطفال، كان من السّهل أن تخضع الشّونميّة لنَدب حالها أو حتّى لليأس. لكن العكس ما حدث، كانت تبحث عن فرصة لتساعد الآخرين.
وأنتِ؟ هل تندُبين حالك على أمور لا تملكينها، أَمْ تبحثين عن فُرَص لتشكري الله سبحانه وتخدمينه بما لك؟
كيف كان ردّ فعل بطَلَتنا عند موت ابنها؟ إنّي على يقين بأنّها أظهرت شجاعة عظيمة علاوة على استعداد للثّبات رغم ما أصابها من صعوبات قاسية.
ما هو ردّ فعلك على الأحوال الشّاقّة التي سمح بها الرّبّ في حياتك؟ هل تؤمنين أنّها أصابتك بإذنه؟ هل تثقين بكمال محبّته، وهل تريدين تمجيده سبحانه؟
قِفي دقيقة لتبوحي للرّبّ بكلّ ما في حياتك حاليّاً من هموم، ثمّ تأمّلي في هذه الكلمات المقتَبسة من الكتاب المقدّس:
يؤرَّخ خروج بني إسرائيل من مصر تحت قيادة النّبي العظيم موسى حوالي سنة 1446 ق. م، بمعنى أنّ قصّتنا حدثت خلال عهد سلالة حكّام مصر الثّامنة عشرة. وقد أيّدت بحوث علماء الآثار أخيراً بأنّ الفرعون المذكور في القصّة هو تحتمس الثّالث الذي اشتُهر بمغامراته العسكريّة، وكان يُسمّى أحياناً بـ"نابليون مصر". ومن حكمه تبقّت لنا آثار رائعة كثيرة في مجموعة المعابد بالأقصر.
قصّة مريم
إنّ الأزمنة الخطيرة تتطلّب وسائل خطيرة!. فمن كان يتوقّع مثل هذا؟ وقفتُ من بعيد وبعذاب هائل شاهدتُ أمّي تضع السّفَط (السّلّة) بحذر شديد بين الحَلفاء المتمايلة على ضفّة نهر النّيل الخالد. لم أكن أخاف أن يغرق السّفَط، إذ كان
مصنوعاً بعناية من البردي ومطلي بالحُمُر والزّفت حتّى يعوم مثلما تعوم أيّ سفينة أخرى على المياه المتلألئة تحت شمس مصر السّاخنة. ولكن ماذا كانت أمّي تتوهّم؟ كيف تخيّلت بأنّ أخي الصّغير المحتَضن في سفَطه سينجو من مصير جميع الصّبيان العبرانيّين الفظيع الذي أمر به فرعون الحاكم؟ لكن المناقشة كانت بلا جدوى، إذ كانت أمّي ثابتة العزم لتحاول كلّ ما في وسعها، لصيانة حياة طفلها الصّغير موسى. فقد خبّأته مدّة ثلاثة أشهر منذ ولادته، وأدركت أنّنا لم نعُد نستطيع بعدإخفاء سرّنا.
ولم أعرف، وأنا صغيرة السِّنّ، لماذا فرعون في عظمته معتزم على هلاك شعبنا. لقد خدم بنو إسرائيل شعب مصر وكانوا في عبوديّتهم منذ سنين طويلة. هم الذين بنوا مخازن بيثوم ورمسيس المرتفعة من عرق جبينهم. لكن بالرّغم من سلطته وقوّته العسكريّة العظيمة، كان فرعون - كما يبدو - يشعر بفزع شديد، فأراد أن يبيد جميع الأجانب المقيمين بمصر. فصارت الإجراءات التي قام بها أكثر قسوة حتّى أمر بطرح كلّ مولود عبراني في نهر النّيل. ولن أنسى أبداً نواح الأمّهات وصياحهنّ لمّا خطفوا أطفالهنّ من ببن أذرعهنّ وطرحوهم في النّهر المهيّأ قبراً لهم.
هل سيكون هذا مصير موسى الصّغير المسكين؟ لم أستطع إلّا الانتظار لأرى ما سيحدث له. وبينما كنت واقفة عن بعد لاحظت حاشية رائعة تقترب من ضفّة النّهر، وهي ليست جماعة عاديّة تريد الاستحمام. ها الأميرة ابنة فرعون نفسها تقترب وخادماتها معها في صحبتها!. وبينما كنّ يتقدمنَ خفيفات الحركة، توقّفت الأميرة فجأة عندما اكتشفت الطّفل موسى في سفَطه يتأرجح بين الحَلفاء. وبدأ موسى يبكي، فكادت دقّات قلبي تتوقّف. اقتربتُ زاحفة لأعاين الأحداث عن قرب. ولا أقدر وصف راحة شعوري عندما بدت الأميرة مليئة حناناً ورحمة ولم تُظهر أيّ أثر من قسوة أبيها وعنفه. صحيح أنّ موسى كان طفلاً جميلاً، من الصّعب أن يتوقّف أحد عن العناية به نظراً لخوفه ووحدته. قالت الأميرة: «إنّه أحد الأطفال العبرانيّين!».
وكان واضحاً أنّها لم تقصد إضراره، فشرعتُ فوراً في التّقدّم إليها بعد أن جاءتني فكرة، وتجرّأت على مخاطبة منقذة موسى الطّيّبة وقدّمت لها اقتراحي.
«هل تريدين أن أذهب لأُحضر لك إحدى النّساء العبرانيّات لتُرضع لك الولد؟» سألتُها محاوِلةً ألّا تُفشي نبرات صوتي بحماستي.
لا أستطيع أن أعبِّر عن الغبطة التي شعرت بها عندما قَبِلتْ ابنة فرعون اقتراحي. فأسرعتُ إلى أمّي وأحضرتها إلى مكان النّجدة. ثمّ عَرَضتْ الأميرة عليها أن تُرضع موسى لها. ما أعجب سُبُل الله!، فالإضافة إلى إنقاذ أخي الصّغير يومئذ، أُعطيَت أمّي فرصة العناية به طوال تلك السّنين الهامّة في تكوينه.
حقّاً، إنّ الله كان له قصد في كلّ هذه الأحداث. فعندما كبر موسى، ضمّته الأميرة إلى القصر وعلّمته جميع علوم مصر العظيمة. وبالرّغم من ولادته في عائلة أجنبيّة تخدم كعبيد في مصر، إلّا أنّ موسى تلقّى تربية متميّزة لا تُشترى بالمال. وكانت ابنة فرعون تحبّ موسى محبّة شديدة، فتبنّته كابنها، ودعته موسى - ربّما احتراما لأبيها - لكن أيضاً للتّذكرة بأنّها انتشلته من الماء.
ولم تعلم الأميرة كما لم أعلم أنا، أنّ أخي موسى هو الذي سيشقّ مياه البحر الأحمر الهائجة كطريق بعون الله تعالى وسيخرج شعبنا من المياه إلى أمان الأرض اليابسة على الضّفّة الأخرى. ما أعظم شكرنا لمعروف الأميرة الشّابّة التي بِعَمَل واحد بسيط أدّت دوراً هامّاً في فداء أُمّتنا!.
للتّأمّل
إنّ ابنة فرعون أظهرت خلوّاً عجيباً من التّحيّز والعنصريّة عندما قرّرت إنقاذ الطّفل العبراني الضّعيف. إنّ كلمة الله تعلّمنا ألّا نحجب الإحسان عمّن يستحقّه كلّما كان في وسعنا أن نقوم به. (الأمثال 3: 27)
وأنتِ؟ هل أنتِ معروفة بحنانك ورحمتك؟ أَمْ أنتِ سجينة التّحيّز النّاشئ عن تجاربك الماضية السّيّئة أو عن تربيتك؟
ليس عند الله تحيّز (رومية 2: 11)، فهو يستخدمنا لنكون بَرَكة للآخرين وإثراء حياتهم بأشكال متنوّعة، إذا كنّا مستعدّات أن نستسلم له وأن نهتدي به أينما قادنا.
هل هناك شخص قريب منك يحتاج إلى عونك؟ لعلّكِ تستطيعين أن تزوري إنساناً كبيراً في السّنّ أو مريضاً. لعلّكِ تشعرين بأنّ قوّتك وصبرك لا يكفيان لتعتني بطفلك المحتاج حاليّاً إلى عنايتك. اطلبي من الرّبّ أن يجعل قلبك أكثر رقّة تجاه حاجات الآخرين من احتياجاتك الخاصّة. ثمّ اطلبي منه سبحانه أن يمنحك رحمة، نعمة ومحبّة لتسديد تلك الحاجات.
أمّا الآن، فهذه الثّلاثة باقية: الإيمان، والرّجاء، والمحبّة. ولكن أعظمها هي المحبّة!
مكان وقوع قصّة راعوث وبوعز المثيرة إنّما هو المدينة التّاريخيّة بيت لحم الواقعة ستّة أميال جنوبي أورشليم. وكانت هذه المدينة مسقط رأس حفيدهما الملك داود الذي كان يرعى غنمه على التّلال المحيطة بها. ومن عشيرة داود وُلِد يسوع المسيح منذ أكثر من ألفي سنة وفقاً لنبوءة النّبي ميخا (ميخا 5: 2).
رواية نُعمي
لا يكفي الكلام لوصف المرارة التي شعرت بها عند وصولي إلى بيت لحم بعد سنوات النّفي، فلم أكد أستطيع تحمّل الآلام التي شعرت بها بعد موت ابنيّ وزوجي أليمالك. أمّا الدّافع لرجوعنا إلى بيت لحم فاللبحث عن اللّحم والخبز نظراً لخطورة المجاعة في بلدان المنطقة. وكانت راعوث زوجة إبني وحدها تسلّيني رغم أنّها امرأة أجنبيّة من بلاد موآب. وأصرّت على أن تصاحبني إلى بيتي ببيت لحم، فقد بدأت بمرور السّنين تحبّ الإله الوحيد الحقّ وتخدمه، وكان هذا سبب الرّابط القوي القائم بيننا.
وحتّى اسمي نُعمي - «المتنعّمة» - لم يناسبني بعد هذه المأساة، فقد أصبحت حياتي مليئة يأساً ووجعاً. لذلك أمرت نساء المدينة: «لا تدعوني نُعمي!، ادعوني مُرّة، لأنّ الله القدير قد مرّر حياتي. لقد خرجت ممتلئة وأرجعني الرّبّ فارغة اليدين.» وعند وصولنا إلى بيت لحم قد حان وقت الحصاد.
ولا أعلم ماذا كنت لأفعل لو لم تساعدني راعوث، فقد عملتْ بلا كلل في الحقول، تلتقط السّنابل المتبّقيّة أينما وجدتها. وفي نهاية اليوم الأوّل رجعتْ سعيدة تحمل إيفة كاملة شعيراً. وكان قد اتّفق أنّها قد عملت دون علمها في حقول أحد أقربائنا، رَجُل فاضل لطيف اسمه بوعز. وقد أحسن إليها وحماها من الظّلم ودعاها لتناول الغداء مع الحصّادين الآخرين. واطمأنّت بأنّه لن يصيبها شرّ تحت رعاية رَجُل محترم مثله يحبّ الله سبحانه ويهتمّ بالنّاس. وعندما نظرتُ إلى أحوال حبيبتي راعوث والظّروف القاسية التي عانتها، أتتني فكرة عجيبة. تُقتَ إلى أن تجد سعادة جديدة في الزّواج وأنْ تلد أبناء. فقد أصابها الأسى واليأس عند موت ابني الذي تركها أرملة صغيرة السّنّ دون أبناء يخلّدون اسم العائلة.
ولكن إذا تزوّجت راعوث ببوعز ... صحيح أنّه أكبر منها سنّاً بعدًة سنوات، لكنّه رَجُل متميّز الأخلاق، وكان قد أحسن إليها. وعلى أيّ حال، يستطيع باعتباره أقرب الأقرباء وغير متزوّج أن يتولّى مسؤوليّة الزّواج بها لتوريد وريثاً للأسرة.
وانتظرت لحظة ملائمة لأُخبر راعوث بخطّتي، ودعوتها إلى أن تتحلّى وترتدي أجمل ثيابها وتتطيّب. ثمّ في نهاية اليوم اقترحت عليها أن تبحث عن المكان في البيدر الذي كان بوعز يرتاح به وأن تقترب منه بهدوء.
وكنت طبعاً واعية بأنّ مثل هذا الرّجُل الفاضل سوف لن يستغلّ الفرصة للإساءة إليها، بل سوف يدرك ما يُتوَقّع منه. والحمد لله، حدث ما حدث كما أردته. لقد أخبر بوعز راعوث بوجود قريب أقرب منه، له الحقّ في الزّواج بها، لكن إذا رفض الرَّجُل هذا، كان بوعز نفسه مستعدّاً لأن يتكلّف بدور قريبها الولي وأن يتزوّج بها. وعُربوناً على صدق وعده كال لها ستّة أكيال من الشّعير في ردائها وأعادها إليّ.
انتظرت رجوع راعوث انتظاراً شديداً، وحالما رأيت وجهها، عرفت أنّ الأمور كلّها على ما يرام. ولم يُضِع بوعز وقتاً، بل دعا قريب راعوث الآخر وشيوخ المدينة إلى اجتماع. وبارك كلّهم الزّواج بفرح شديد، أمّا أنا، فقلبي كاد يثب سعادة يوم عرسهما. وكان هذا فعلاً زواجاً عقد في السّماوات.
وهكذا أمسى بيت الحزن مأوى للأمل والحياة الجديدة. وبعد مدّة قصيرة حَمَلت راعوث طفلاً، وكم فرحت حينما وضعت حفيدي في حضني!، وكان عوبيد، ابن راعوث وبوعز، هبة عظيمة من الله سبحانه. وأدركت أنّه تعالى القدير له خطّة خاصّة بحياته أيضاً، كما له خطّة لجميعنا إذا وثِقنا بلطفه ومحبّته.
للتّأمّل في نسب يسوع المسيح نقرأ
«وبوعز أنجب عوبيد من راعوث. وعوبيد أنجب يسّى. ويسّى أنجب داود الملك ...» الإنجيل كما دوّنه متّى، 1: 5
بفضل محبّتها وإخلاصها كانت راعوث مستعدّة ليستخدمها الرّبّ في خطّته العظيمة المقصود بها فداؤنا.
هل ترينَ أنّ الرّبّ له خطّة خاصّة لحياتك؟
هل هناك أشخاص أو أمور قد تحول بينك وبين فرح تطبيق هذه الخطّة العظيمة؟ لمن تنتسبين؟
هل أنت متيقّنة أنّ الله سبحانه يحبّك محبّة أبديّة؟ وأنّ هذه محبّة لن تتغيّر أبداً؟
إنّ الله خالقنا يحبّنا، لذلك ينبغي أن نقبل أنفسنا. كيف يمكن أن تقبلينَ محبّة الله تجاهك في حياتك اليوميّة؟ لقد أظهر الله محبّته لنا، عندما مات يسوع المسيح على الصّليب ليحمل العقوبة التي نستحقّها نحن بسبب خطايانا. تأمّلي محبّة الله لك!، اطلبي منه تعالى الآن أن يبيّن لك هذه المحبّة بطريقة ملموسة واضحة.